ما يراه الخبراء المتابعون لمجمل الدراسات التي بحثت في سبل الوقاية من الإصابة بأمراض شرايين القلب هو أن الاهتمام الفعلي الجاد بها لا يكفي أن يكون من متوسطي العمر والكبار، بل إن المؤشرات تدل وبقوة على أن ذلك يجب البدء به في مراحل مبكرة من العمر، وتحديداً منذ الطفولة. ما يعني بالتالي أن اهتمام الآباء والأمهات بتبني أطفالهم سلوكيات مفيدة لصحة القلب له دور فاعل في تخفيف احتمالات تعرض الأبناء والبنات الصغار هؤلاء للأزمات القلبية في مراحل تالية من أعمارهم، وخاصة عند الكبر.
* وجبات صحية للصغار وأكد البروفسور روبرت إيكل، من جامعة كلورادو والرئيس السابق لرابطة القلب الأميركية، على أن الرسالة التي يجب توضيحها للوالدين هي أن الاهتمام بتناول الوجبات الصحية منذ الصغر له فوائد هامة على المدى البعيد، ذلك أن الفكرة السائدة بأن أمراض الشرايين القلبية لا تبدأ بالنشوء إلا في الخمسينات من العمر، قد ثبت خطؤها. والآثار المدمرة لتناول الدهون المشبعة دائما ما تتلف شرايين الإنسان في أي عمر كان.
وتأكيد القيمة العالية لتبني تناول وجبات طعام صحي مفيد للقلب، قد ظهر بشكل واضح من نتائج دراسة مستمرة حتى اليوم على قدم وساق تُجرى في فنلندا. وهي الدراسة التي بدأت عام 1990 وشملت أكثر من ألف طفل رضيع، تم البدء بمتابعة غالبهم حينما كانوا في عمر سبعة أشهر.
واتجهت الدراسة نحو مقارنة تأثير تناول وجبات قليلة المحتوى من الدهون المشبعة، المتوفرة عادة في اللحوم، بتأثير تناول وجبات عادية لا تحديد فيها لكمية الدهون المشبعة. وفي سبيل ضمان تحقيق خفض تناول الأطفال للدهون المشبعة تم تأمين لقاء بين الوالدين وأخصائي التغذية مرتين في العام، من أجل مراجعة معلوماتهم عنها في وجبات الطعام ومدى اتباع الأطفال لتناول الوجبات الصحية تلك.
وتم تقويم فائدة تبني المجهود المبكر والمتواصل، للوالدين وأخصائي التغذية، في سبيل الحد من تناول الأطفال للدهون المشبعة، عبر إجراء فحوصات بالأشعة الصوتية لشرايين الأطفال. والتي تبين من نتائجها أن تجنب الدهون المشبعة أدى إلى محافظة الشرايين على رحابة سعة مجاريها، ما يُفسح المجال لجريان كميات أكبر من الدم خلالها.
وكان الأثر هذا واضحاً لدى الأولاد دون البنات تحديداً. وهو ما لم يستطع الدكتور أولّي رياتاكاري، الباحث الفنلندي المشارك في الدراسة، إيجاد تعليل لسبب الاختلاف ذلك، إلا أنه قال ربما الأمر نتيجة لتأثير هرمون الاستروجين الأنثوي. والمعروف أن هرمون الاستروجين الأنثوي يُوجد بنسبة أعلى في جسم الفتيات بخلاف الأولاد، وأن الهرمون هذا له تأثيرات تحد من تمادي الكولسترول الخفيف الضار من إفساد بنية الشرايين ونشوء التضيقات فيها.
ويعتقد الباحثون أن مجرد ظهور الأثر المفيد على شرايين الأولاد هو حافز على جدوى تبني تناول وجبات قليلة المحتوى من الدهون المشبعة. وأن التأثير المفيد لذلك على شرايين البنات لن يلبث لا محالة في الظهور في مراحل تالية من العمر، خاصة بعد تجاوزهن سن العشرين من العمر.
* إرشادات طبية وتتضمن إرشادات رابطة القلب الأميركية والأكاديمية الأميركية لطب الأطفال بأن الأطفال فيما بين سن الثانية والثالثة من العمر يجب تناولهم وجبات مكونة من الدهون بنسبة تتراوح ما بين 30 إلي 35% من مُجمل كمية طاقة وجبات التغذية اليومية، اما من هم فوق الرابعة من العمر وما فوق، فيُخفف من كمية الدهون لتبلغ 25% كحد أدنى، على أن لا تتجاوز حد 35%.
وتعمل مؤسسة الحركة من أجل صحة الأطفال ضمن أكثر من خمسين جمعية أهلية ووكالة حكومية في الولايات المتحدة بهدف تصحيح أوضاع الزيادة الوبائية في أوزان الأطفال وتفشي قلة ممارسة النشاط البدني بينهم وحالات سوء التغذية. وتطالب الحركة من المدارس تأمين مزيد من الفواكه والخضار والحليب ونوعيات جيدة من اللحوم، ضمن برامج وجبات الطعام المدرسي التي سبق لملحق الصحة الحديث عنها قبل بضعة أسابيع. وهي برامج أثبتت جدواها في العديد من جوانب صحة الأطفال ونوعية تغذيتهم.
وقالت إليسا مواغ ـ ستالبيرغ، المديرة التنفيذية للحركة، إن الإرشادات الأميركية الأساسية لا تتضمن النصح باتباع أو تبني أي خطوات حول الحد من تناول الأطفال للدهون حينما يكونون دون سن الثانية من العمر. وكل ما تُشير إليه هو أن على هؤلاء الأطفال ومن هم أكبر منهم سناً تبني الإكثار من تناول الفواكه والخضار والحبوب الكاملة وتناول مشتقات الألبان من الأنواع قليلة الدسم أو الخالية منه، إضافة إلى تناول البقول والأسماك، والحرص على إزالة طبقات الدهن عن اللحوم الحمراء قبل تناول الأطفال لها. هذا كله مع حرصها على خفض تناول الأطفال للدهون المشبعة والمتحولة.
وما بعد تجاوز عمر السنتين هو الوقت الذي يبدأ الوالدين بإطعام أطفالهم وجبات على ضوء إرشادات التغذية، وهو ما لو تم فإن له أثراً مفيداً على صحة الطفل المستقبلية، كما أكدت ذلك. وقالت بأن متابعة التوجيهات الصحية لا تقتصر على المنزل، بل في المدرسة كذلك. وأضافت بأنه لا يعني فقط عدم الإكثار من تناول الحلوى أو مقرمشات رقائق البطاطا، بل الحرص على تناول الأطعمة الصحية المتقدمة الذكر مع الحرص على ممارسة الرياضة البدنية.
* الأطفال والدهون وتناول الأطفال للدهون أحد الجوانب الطبية الشائكة من عدة جوانب، ما يجعل من الصعب على الهيئات الطبية والمعنية بالتغذية على وجه الخصوص وضع ضوابط صارمة لمنع الأطفال من تناول الدهون. وثمة أسباب عدة لذلك أهمها أن الأطفال لا يزالون في مرحلة النمو الجسمي والعقلي، وان أجزاء عدة من الجسم تحتاج الدهون والكولسترول للنمو بشكل سليم. وتحديداً فإن الجهاز العصبي وأنظمة الهرمونات في الجسم تحتاج إلى تأمين كميات كافية من الدهون والكولسترول، بالإضافة إلى أن الدهون ستكون مصدراً أفضل لطاقة الوجبات الغذائية بدلاً من السكريات على وجه الخصوص. كما أن من المعروف أن الكولسترول في جسم الإنسان حيوي ومهم لصحته. وعلى وجه الخصوص من ثلاثة جوانب. الأول في نمو الدماغ ومحافظة أنسجة الجهاز العصبي على حيويتها وكفاءة أدائها لعملها في توصيل الإشارات والرسائل العصبية. والثاني في انتاج العديد من الهرمونات اللازمة لنمو الجسم وكفاءة عمل أعضائه. والثالث هو بناء أنسجة الجسم المختلفة بشكل سليم، لأن الكولسترول لبنة أساسية في الحفاظ على لُحمة وتماسك جدران الخلايا.
والإشكالية أن الجسم عادة ما يُنتج 80% من الكولسترول في الكبد، ويتلقى 20% من وجبات الطعام. لكن كبد الأطفال في سن دون الثانية من العمر لا يستطيع بكفاءة واقتدار تأمين الكمية التي يتطلبها الجسم من الكولسترول للنمو. وهنا تتأكد الحاجة إلى تأمين الكولسترول في غذاء الطفل من خلال الحليب أو البيض أو غيره من المنتجات الغذائية الحيوانية تحديداً. لأنه من المعروف أن المنتجات الغذائية النباتية وزيوتها على أنواعها لا تحتوي مطلقاً على الكولسترول.
* أنواع الدهون من هنا فإن الإرشادات الطبية ليست صارمة، ويجب أن تكون كذلك، في عدم حدها من تناول الأطفال للدهون المشبعة والكولسترول بالذات. لكن ما بدأ الحديث في الأوساط العلمية عنه أن عدم التحديد والتساهل المفيد في تناول الدهون المشبعة والكولسترول ليس على إطلاق التمادي فيه. بل الواجب أيضاً ضبط ذلك ضمن حد أن لا تتجاوز الدهون نسبة 35% من طاقة وجبات الطعام اليومية. والدراسة الحديثة تطرح جانباً من فائدة تقليل تناول الدهون المشبعة على وجه الخصوص في وقاية شرايين الأطفال الذكور من حصول التضيقات فيها.
والمعلوم أن الكولسترول يختلف من عدة جوانب كيميائية عن الدهون، ولذا لا يُصنف من ضمن الدهون. والدهون بشكل عام ثلاثة أنواع. النوع الأول هو الدهون المشبعة، وسُميت كذلك نظراً لتشبع الروابط فيها بذرات من الهيدروجين. وهي مثل الشحوم الحيوانية والزبدة ودسم الحليب وغيره من المنتجات الحيوانية. ومن الزيوت النباتية فإن زيت النخيل وزيت جوز الهند هما أشهر الزيوت النباتية المشبعة. وما تجدر الإشارة إليه هو أن البيض لا يحتوي إلا على كميات ضئيلة لا تُذكر من الدهون المشبعة. والنوع الثاني هو الدهون غير المشبعة. وهي غالب الزيوت النباتية، بنوعيها الأحادي أو العديد مثل زيت الزيتون والسمسم والذرة ودوار الشمس والدهون التي في البيض أو الأسماك أو الربيان. والنوع الثالث هو الدهون المتحولة. وهي ما أنتجته يد الإنسان وقدمته لنا بعد البدء بإنتاج الزيوت النباتية المُهدرجة منذ ما بعد عام 1920. وتشير كثير من الدراسات الطبية إلى أن أضرار تناولها تفوق التصور في زيادة عرضة الإصابة بأمراض الشرايين القلبية والعقم وتدني القدرات الجنسية.